قطر ومجتمع العزاب

الدكتور محمد بن علي الكبيسي


قطر ومجتمع العزاب
 
بحسَب وكالة "بلومبرغ" الإخباريّة "أصدرت وزارة الماليّة القطريّة تعليمات إلى الوزارات والمؤسسات والكيانات الحكوميّة المموّلة من الدولة لخفض النفقات الشهريّة للموظفين غير القطريين بنسبة 30 بالمئة بدءًا من 1 يوليو 2020، إما عن طريق تقليل الرواتب، أو تسريح العمّال، بإشعار لمدة شهرين". وهذا التوجّه أيضًا طال القطريين حيث "أمرت وزارة الماليّة بوقف الترقيات، والبدلات النقديّة للموظفين مقابل الإجازات، وتذاكر السفر، كما أوقفت معظم المدفوعات المُسبقة (السُّلف على الراتب)". وهذا، وكما أعلن، أتَى بسبب محاولة دعم موارد البلاد الماليّة لمُواجهة تأثير جائحة كورونا. فعلًا كان هذا القرار صادمًا، وكأنّ الجهات المٌختصّة لم تُعطِ اهتمامًا، أو دراسة كافية، للآثار المترتبة عليه. إنّ أول الآثار المُتوقعة لتلك القرارات، وبالأخص على الأفراد المُرافقين لهم أسرهم، إما القيام بمُغادرة البلاد هم وأسرهم، أو بترحيل الأسر والبقاء بمفردهم، أو الاستمرار ولكن بمستوى معيشة أقل من الكفاف. ولقد تَوقّعَت مجلة "أكسفورد إيكونوميكس" رحيل ما يَقرب من 10% من سكان قطر. وبحسب البيانات الديموغرافيّة لجهاز التخطيط والإحصاء القطري، فقد حدث انخفاض إجمالي السكان المتواجدين في الدولة من 80ر2 مليون نسمة في مارس 2020 إلى 64ر2 مليون نسمة في مارس 2021. الكل يَعترف أن قطر تُعاني من خلل في التركيبة السُّكانيَّة، ولقد حاول مجلس الوزراء حل مشكلة هذا الخلل، منذ أكتوبر 2009، عن طريق تشجيع معدل النمو الطبيعي للسكان من المواطنين القطريين، وإعطاء الأولوية في العمل للعامل المتزوج، فبدلًا من استقدام عاملين أعزبين يتم استقدام أسرة (يعني طبيب وزوجته الطبيبة ومدرس وزوجته المدرسة ونحو ذلك) وبالتالي تزيد نسبة الإناث في المجتمع القطري. وبقرار غير مدروس تم نَسف جميع مُحاولات مجلس الوزراء لتصحيح الخلل السكاني. وأعتقد أن الانخفاض الذي ذكره جهاز التخطيط والإحصاء هو نتيجة رحيل الأسر الوافدة التي تعرّضت لانخفاض في راتب معيلها. وعليه فإنه من المُتوقع أن يُصبح معدل الإناث حوالي امرأة واحدة مقابل لا يقل عن ستة رجال، بدلًا من المُعدّل السابق وهو امرأة واحدة مقابل أربعة رجال. ولرغبة مشاركة الجميع في مناقشة قضايا المجتمع فقد طرحتُ تساؤلًا في تويتر: ما هي الآثار المُحتملة لتخفيض الرواتب والأجور؟ ووردني من مجتمع المُغردين حوالي 217 مشاركة، وكلها، ما عدا سبع منها، تؤكد على أن الآثار المُتوقعة ستكون سلبيّة على المجتمع القطري. إن تحوّل المجتمع ليُصبح غالبيته من العزاب، سيساهم في خلق العديد من المشكلات الأمنية والاجتماعيّة والثقافيّة وعلى رأسها الرشوة والمشكلات الأخلاقيّة، مما سيُجبر الحكومة على الإنفاق لنشر الغطاء الأمني اللازم، ولمعالجة المشاكل العديدة التي لن ينجو من آثارها المجتمع القطري، أكثر مما وفرته من عملية خفض الرواتب.
 
ومن النتائج الكارثية الأخرى لخفض رواتب العمالة الوافدة سيكون على الاقتصاد القطري، وسيكون أبرزه التالي:
1.    تهاوي شركات ووقف أنشطة اقتصاديّة بالكامل: إنه من المعروف أن الاقتصاد يعتمد على استهلاك الوافدين، وبالأخص العمالة الوافدة المُصاحبة لهم أسرهم، وأن تخفيض رواتب الأشخاص أصحاب الأسر سيؤدي إلى انخفاض الطلب على السّلع والخدمات، وهذا سيؤثر على أرباح الكثير من الشّركات، ممّا قد يُجبر البعض على مُغادرة السّوق، وسيؤثّر على مُستويات معيشة أصحابها. وهذا يَعني انزلاق المزيد من المواطنين القطريين نحو براثن الفقر المدقع والبطالة.
2.    إخلاء الكثير من الشقق والفيلات: ومع مغادرة أسر الوافدين فلن تكون هناك حاجة لتأجير وحدة سكنيّة، بل سيكتفي الوافد الذي أجبر أن يكون عازبًا بغرفة واحدة، أو ربما بسرير في غرفة مشتركة. هذا الأمر سيؤدي إلى إخلاء العديد من الوحدات السكنيّة، مما سينتج عنه تعثر المالك، أو المالكين، في تسديد قروض البناء البنكية، وسيعرضهم للعديد من المَشاكل مع القضاء، وبالتالي سيُعانون من قلة ذات اليد للصرف على أنفسهم أو عوائلهم.
3.    انهيار القطاع المصرفي: وستؤدي النتيجتان (1) و(2) إلى تأثر كبير للقطاع المصرفي الذي سيُعاني من تحصيل الديون المتعثرة.
4.    زيادة التحويلات الماليّة للخارج: طبعًا سيستمر الوافد بالصرف على عائلته، ولكن بدلًا من الصرف داخل البلد سيكون الصرف عليهم في بلدهم الأصلي عن طريق التحويلات المالية للخارج. وهذا سيؤدّي إلى حرمان المجتمع المحلي من تدوير الأموال داخل قطر.
5.    خطر نقص العمالة الماهرة: إذا لم تصاحب عمليّة رحيل الوافدين من قطر إصلاحات ضروريّة فسيكون الضرر على المدى البعيد كبيرًا. صحيح أنه لن يتضرر العاملون في المهن اليدويّة، لكن سيتأثر أصحاب المؤهلات المهنية بمثل هذه القرارات، فمِن المتوقع رحيلهم إلى أماكن أو دول أخرى، أو أن تعود إلى بلدها الأصلي، وللأسف لا توجد خطط لإيجاد بديل لهم.
6.    تقلص إيرادات الحكومة من الرسوم المختلفة.
 
إن ما تم من تخفيضه من الأجور هو أمر غير مخالف لأي قانون معمول به في قطر، لأن العمالة الوافدة وافقت على خفض رواتبها كأحد الحلول التي قُدمت لهم للاستمرار في العمل، بدل حرمانهم من الوظيفة في وقت قلت فيه الفرص الوظيفية المتاحة، وعليه فقد تم التوقيع على عقود جديدة. ولكن هذا، في حد ذاته، يعتبر بعرف المادة (137) و (138) من قانون رقم (22) لسنة 2004 بإصدار القانون المدني، من عقود الإكراه التي تبطل فعالية العقد الجديد وتعتبر العقد القديم هو الأساس في المعاملة.
 
وفي الختام نقول: إن تخفيض الرواتب والأجور هو قرار غير حكيم وغير مدروس، وللأسف إنّ مُتخذ القرار حتى إنه لم يختر التوقيت المناسب لتفعيله. فالمجتمع القطري، "مواطنين ومقيمين"، كان خارجًا من حصار آثم أكل معظم مدخراته، وبعد ذلك جاء فيروس كورونا وقضى على البقية الباقية. ولو كانت الدولة تُعاني من شُحّ في الموارد الماليّة لوَقَفَ الجميع تأييدًا لهذا القرار، ولكنّ الوضع المالي أكثر من ممتاز، والدليل على ذلك الحجم الهائل من المساعدات والهبات التي تخرج من قطر للعالم. وهنا من حق العامل أن يتساءل: هل قصّر في عمله ليُعاقَبَ بتخفيض راتبه؟ إن تحول المجتمع القطري إلى مجتمع عزاب سيؤثر على حركة بناتنا وزوجاتنا وأمهاتنا، وسيجعلهن معرضات للخطر الدائم من هؤلاء العزاب كلما خطون خطوة خارج المنزل. إن عودة الأمور لما كانت عليه في السابق مهمة جدًا لتجنيب البلاد خسائر لا يعلمها إلا الله. وأهلنا الأولون قالوها: قيس قبل لا تغيص. يعني احسب الآثار قبل اتخاذ القرار.
 
والله من وراء القصد،،
 


Comments

  1. مقال أكثر من رائع ، جزاك الله خيراً

    ReplyDelete
  2. كتب الله أجرك لافض فوك أصبت كبد الحقيقة

    ReplyDelete
  3. فعلًا كلام موزون ونتائج القرار مؤثرة على المجتمع ولعدم وجود مراكز دراسات توكل اليها هذه المهمة قبل اتخاذ القرار سيستمر الحال في يد الجهال

    ReplyDelete
  4. جزاك الله خير
    عز الله أنك أصبت مافي القلوب
    وجعلك الله عون لمن لا يجد له منبر لنقل معاناته

    ReplyDelete
  5. This comment has been removed by the author.

    ReplyDelete
  6. مقالاتك رائعه د الكبيسي . وفقك الله
    اخوك ابراهيم صالح الغامدي المدينه المنوره

    ReplyDelete
  7. Good day. I am a private loan lender that gives out both business and personal loans to individual at a low interest rate of 2% no matter your location. If you are interested Contact me (Whats App) number:+917310847059 sumitihomelend@gmail.com Mr. Sumiti

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

مجلس الشّورى والتّقاعد

الحصار وتخبط غرفة قطر

الأرض والقرض للجميع