الموظف العام وحقوق الناس

 الدكتور محمد بن علي الكبيسي


الموظف العام وحقوق الناس
 
يُروى أنه دخل أبو مسلم الخولاني (ويعرف باسم العابد الزاهد وهو تابعيّ مخضرم) على معاوية بن أبي سفيان (أحد كتّاب الوحي، وسادس من حكم الدولة الإسلامية)، وقال: "السلام عليكم أيها الأجير"، فقال الناس: "يا أبا مسلم قل السلام عليك أيها الأمير"، فقال: "السلام عليك أيها الأجير"، فأعادوا عليه قولهم: "قل أيها الأمير"، فردد قوله مرة أخرى: "السلام عليك أيها الأجير"، فقالوا: "قل الأمير"، فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول. والدستور القطري لم يكن بعيدًا عن ذلك، فهو حدد أن الشعب هو مصدر السلطات، ويمارسها (أي يمارس السلطات) وفقًا لأحكام الدستور (المادة 59). وهذا يعني أن كل مقدرات الدولة هي ملك للشعب (الدولة حسب التعاريف العالمية هي الشعب). وبما أن هذا الشعب في حاجة لمن يخدمه لقاء أجر من أموال الشعب، فقد أوجد الدستور القطري مبدأ الوظيفة العامة لخدمة جميع الناس على أرض قطر. فالمادة (54) تنصُّ على أنَّ: "الوظائف العامة خدمة وطنية، ويستهدف الموظف العام في أداء واجبات وظيفته المصلحة العامة وحدها". وبعبارة أكثر وضوحًا نقول: إن الحكومة تقوم بخدمة الشعب وفق قيود الدستور والقوانين المنبثقة منه. ويأتي على رأس هرم الوظائف العامة سمو الأمير المفدى، الذي يعاونه في العمل مجلس الوزراء، وكل وزير يقوم بتعيين من يعينه على العمل المكلف به. وكل مَن في هذه السلسلة من الوظائف العامة محاسبون على أعمالهم أمام سمو الأمير. وسمو الأمير، مع أنه رئيس الدولة، ذاته مصونة، واحترامه واجب (مادة 64)، إلا أنه بدوره محاسب أمام الشعب لتوليه السلطة التنفيذية. إن الموظف العام، أو ما يطلق عليه الموظف الحكومي، عندما يضعه ولي الأمر في الوظيفة العامة فإنه يمثل ولي الأمر وليس نفسه، وعليه القيام بخدمة السكان من مواطنين ومقيمين من خلال تطبيق القوانين والقرارات التي قصد منها تنظيم الحياة الخاصة، وتحقيق المصلحة العامة. إن الذي جعلني أكتب هذه المقدمة هو ما وصلني من خلال الواتس أب بعنوان: "إلى ولي أمرنا .. أين حقوق المواطن؟". وفي هذه الرسالة يبدأ كاتبها بعبارة: "مش كل قطري غني". وأهم ما جاء فيها هو الارتفاع الكبير في أسعار السلع والخدمات، وأسعار السكن والبناء، وأسعار المدارس الخاصة والمدرسين الخصوصيين الذين هم في الأصل مدرسون في المدارس الحكومية، وكل هذه الزيادات في التكاليف قابلتها الحكومة بمنع المنح والسلف، وبخصم بعض البدلات من الرواتب، وبخاصة في فترة الإجازات بما فيها إجازة الوضع، وخصم بدل خادم الممنوحة لكبار السن والمعاقين، مع التعسير على مقدمي الوظائف في منصة "كوادر"، وتأجيل توظيفهم سنوات طويلة، وعدم إعفاء أصحاب الأمراض المزمنة من العمل، والعمل على عدم تعيين القطري كعضو هيئة تدريس بجامعة قطر، فيما يسمح بذلك لغير القطري. وينهي صاحب الرسالة رسالته بعبارة:" لقد دفعنا ثمن شهرة الغنى الفاحش، لكن هذا ليس حقيقة". الصراحة صدمت من فحوى الرسالة، فقمت بدوري بقراءة قانون رقم (15) لسنة 2016 بإصدار قانون الموارد البشرية المدنية، وبخاصة الفصل الرابع: "الرواتب والعلاوات والبدلات والمزايا الوظيفية الأخرى"، والفصل التاسع: "الإجازات"، ووجدت أن القانون القطري قد ثبت حقوق الموظف في العلاوات والبدلات وجعلها جزءًا لا يتجزأ من راتبه، ورتّب أنواع الإجازات، وجعلها براتب إجمالي. أي أنها تشمل الراتب الأساسي وجميع العلاوات والبدلات الممنوحة للموظف جراء قيامه بمتطلبات وظيفته. لهذا فإن خصم أي جزء من الراتب الإجمالي يعتبر غير قانوني، وهو مساس بحقوق الموظف التي أقرتها القوانين القطرية، التي صادق عليها سمو الأمير المفدى. لذلك فإنه ليس على مزاج الحكومة أن تعطي الأفراد حقوقًا، وبعد ذلك تسحب تلك الحقوق بقرارات موظفين هم أقل سُلطة من سمو أمير البلاد. فما جاء بالقوانين لا يلغيه إلا قانونٌ مماثل يصدر من رئيس الدولة. إن ممارسات بعض الموظفين العامين، وللأسف، تبعد كل البعد عن خدمة الناس. فهذا يحيل المواطنين للتقاعد القسري قبل بلوغهم سن التقاعد، وفي نفس الوقت يقوم بتعيين، أو تجديد عقود وافدين ممن تجاوزت أعمارهم السن المسموح به. وآخر يقوم باقتطاع جزء من رواتب أو بدلات الموظفين بحجة تغطية عجز الموازنة العامة، في حين أن البلد فيها خير كثير، وهذا الخير يذهب لخارج الحدود، بشكل هبات ومساعدات، ولا ينال الشعب القطري أي شيء منه. وثالث يعرف ويدرك أن الرواتب والمعاشات تتآكل بفعل التضخم وارتفاع الأسعار، ومع ذلك ينطبق وصف رب العالمين عليه ".. يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا.." الجاثية: 8. والنماذج كثيرة ولا داعي لذكرها جميعًا، وعندما تتحاجج مع من هم على هذه الشاكلة يتنصل من المسؤولية بكلمة سهلة اللفظ، كبيرة المعنى، وهي: "هذه أوامر السلطة العليا"، وذلك لعلمه أن الشعب القطري يطيع ولي الأمر ولا يعصي له أمرًا. ولكن الذي نعرفه أن ولي الأمر أصدر قوانين وتعليمات منشورة، وليست سرية. وفي نفس الوقت فإن ولي الأمر، كما نعرفه ويعرفه العالم أجمع، واضح في قراراته، ويتمتع بشفافية عالية، ولا يأمر بشيء ويطلب تنفيذ شيء آخر. ولو أنني لا أعرف شخصيًا كلًا من سمو أميرنا المفدى، ومعالي رئيس مجلس الوزراء، لقلت: إننا في دولة استبدادية دكتاتورية، ولكني- والحمد لله- أعرفهما جيدًا. وكما قال أحد الأوروبيين بعد إعلان إسلامه وذهابه للحج: "الحمد لله الذي عرفني بالإسلام قبل أن يعرفني بالمسلمين". ولا تنسَ، أيها المسؤول الكريم. أيًا كانت درجتك الوظيفية، فإن سمو الأمير المفدى هو من ثبتكم على هذه الوظيفة، وأعطاكم السلطة، واستأمنكم عليها أمام الله لتسهلوا للناس أمورهم ومعيشتهم. ولا تنسوا قول الله تعالى: ".. وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" الأعراف: 85. ولا ننسَ قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة "، فقال له رجل: يا رسول الله؛ وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال: "وإن قضيبًا من أراك (مسواك)". فإذا كان على مسواك يدخل الشخص في النار خالدًا مخلدًا فيها فما بالنا بمن يقطع أرزاق الناس.
 
وفي الختام نقول: إن المواطن لا يزال يترقب مزيدًا من التحسن على مستوى دخله ومعيشته، وتخفيف الأعباء التي ترهق كاهله. وعلى الموظفين العامين مواجهة الناس ومقابلتهم، وسـماع مطالبهم وشكاواهم. وإن من الواجب عليهم الاجتهاد في تيسير مطالبهم، وقضاء حوائجهم، قدر الـمستطاع، وفق ما أمر الله تعالى به من العدل والإنصاف والإحسان، قال الله تعالى "وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" الشعراء: 215. ونحذر الموظف العام من الوقوف في طريق قضاء الحوائج، وتعطيل سير المعاملات، والتحكم في إنجاز المطالب المستحقة، ولابد من الحرص على عدم التعرض لدعوات المسلمين، ولاسيما الضعفاء والمساكين والمحتاجين، فإن دعوات المظلومين مستجابة وليس بينها وبين الله حجاب. وفي نفس الوقت نقول كما قال رسُل رب العالمين: "وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ" إبراهيم: 12 
 
والله من وراء القصد ،،
 


Comments

  1. بارك الله في جهودكم ونفع الله بكم البلاد والعباد

    ReplyDelete
  2. الله عليك دكتور وفيت وكفيت و أوجزت في سطور دور الرئيس و المرؤوس دور الامير المفدى و معالي رئيس مجلس الوزراء وكل من يختص بالوظيفة العامة ودور الشعب نعم هناك من يتعمد إذاء الناس في حاجياتهم ويتعسف بقراراته وي كأن الامر كله بيده واذا ناقشته الامر و افحمته بالحجة و البرهان و الدليل جعل الكلمة السحرية مخرجه الامر من فوق واذا سالته من فوق اوامر عليا يااخي يكفينا سخفًا فوق يعني مادون الله في الارض يعني اوامر بشرية واذا كان ربان السفينه سمو الامير فلاً يصدر امر الا بقانون وسوف ينشر في الجريدة الرسمية و كلي ثقة بأن سمو الامير لا يخاف الا الله فلماذا نعلق الامر وي كأن الامر صدر بخوف وكذلك معالي رئيس مجلس الوزراء لن يخاف الا الله ولن يتجاوز صلاحياته التي اعطاها سمو الامير المفدى له واذا اراد ان يعطي الامر لاً يتردد القانون و الدستور يحكم الجميع ارجو من الله ان يصلح لنا ولي امرنا

    ReplyDelete
  3. جزاك الله خير دكتورنا
    صوت المواطن يظهر من خلال فلمك - سلمت يداك

    ReplyDelete
  4. مقالة رائعة. جزاك الله خير. والله يحفظك.

    ReplyDelete
  5. إذا قال لك إن الاقتطاع بهدف تغطية العجز في الموازنة، اعرف أنه من أصحاب الأفكار الخشبية العقيمة الذي يركن إلى أسهل "الحلول"، في حين أنه درس وتغرّب على حساب دولته حتى يعود ويكون مسؤولاً في مكانه ليأتي بأفكار خارج الصندوق. حلول غير تلك السهلة التي جاد بها مخه.

    ReplyDelete
  6. This comment has been removed by the author.

    ReplyDelete
  7. ( جزاك الله خير )
    ...👍.كلام نادر انا نقراه او نسمعه ..



    🥀😔

    ReplyDelete
  8. وزاره التعليم
    حسبنا الله ونعم الوكيل
    حسبنا الله ونعم الوكيل
    حسبنا الله ونعم الوكيل فيكم
    وكل من هو صاحب قرار متسلط على ارزاقنا وامتيازاتنا المسلوبه من كل طرف
    اخرها شفط المنحه السنويه ويعقبها
    البيان السنوي وننتظره من سنه لسنه
    لتعديل بعض او ضاعناالصعبه
    حسبنا الله ونعم الوكيل .

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

مجلس الشّورى والتّقاعد

الحصار وتخبط غرفة قطر

الأرض والقرض للجميع