تداعيات إغلاق قسم الجغرافيا بجامعة قطر

تداعيات إغلاق قسم الجغرافيا بجامعة قطر

لم أفكر في يوم من الأيام أن أكتب عن هذه الجريمة مطلقاً، لا لعجز في الكتابة ولكن لأني وجدت أن هناك من قد لا يفهم ما أكتبه. لقد بدأت الجامعة في ارتكاب الجريمة عندما قرر كبار المسئولين إلغاء قسم الجغرافيا ككيان منفصل ودمجه مع قسمي التاريخ والفلسفة وأطلق عليه "قسم العلوم الإنسانية"، وقلنا ربما هم يرون ما لا نرى. وعندما بدأت الجامعة تعد الخطط الدراسية عرضنا على بعض المسئولين أهمية علم الجغرافيا بالنسبة للعلوم الأخرى وأنه يجب أن تكون هناك مقررات جغرافية تدرس كمتطلبات جامعية. وذكرنا ثلاثة مقررات رئيسية هي: 1. الجغرافيا العامة التي تعتبر مهمة وأساسية لكل التخصصات العلمية مثل الهندسة والعلوم والإدارة والقانون والشريعة والصيدلة. 2. جغرافية قطر ومن المعروف أن كل جامعات العالم تدرس جغرافية المنطقة التي يعيش ويتعايش السكان والطلبة فيها. 3. التنمية الصناعية في قطر والخليج وهذا المقرر مهم لأنه لا يوجد أمام قطر ودول الخليج الأخرى إلا الصناعة والتصنيع وذلك لشح الموارد الطبيعية غير النفط والغاز. ولكن الجامعة، من خلال اللجان المعنية، رفضت الاقتراح بحجة أن الخطط جاهزة ومنتهية. لكن لم نعرف حينها أن النية مبيتة لقتل أهم التخصصات في العالم الذي لم تلغه أعرق الجامعات في العالم قاطبة.

وبجرة قلم أحد كبار المسئولين بالجامعة بدأت المرحلة الثانية من جريمة القتل وذلك بتحويل تخصص التخطيط العمراني من الجغرافيا إلى كلية الهندسة. إنه من المعروف أن دولة قطر تمر بمرحلة حضارية انتقالية خطيرة فيها تتغير البيئة المجتمعية لصالح الحياة في المدن وما ينشأ عن ذلك من توترات ومشكلات التحول. وهنا يتعاظم دور العلوم الإنسانية وعلى رأسها الجغرافيا في تحليل المتغيرات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والتشريعية واقتراح العلاج المناسب لحلها أو للتخفيف من آثارها. بخلاف ما تعمله العلوم البحتة، مثل الهندسة أو الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء التي تعيش في أبراج عالية معزولة عن حل المشكلات المجتمعية.

وفي النهاية اكتملت جريمة القتل وذلك عن طريق إبلاغ كل من له صلة بالجغرافيا بأن الجامعة ستوقف القبول في تخصص الجغرافيا تمهيداً لإغلاق القسم وتسريح كل من فيه من أعضاء هيئة تدريس وموظفين. إن اتخاذ قرار إلغاء التخصص، للأسف الشديد، يعتبر جريمة في حق المجتمع القطري، مع العلم أن جميع خريجي القسم لم يجدوا صعوبة في الحصول على عمل، مما يؤكد أن سياسة الجامعة في اتخاذ قرار إلغاء التخصص لم تكن بدواعي سوق العمل كما قيل. إن الجامعات والمراكز والمؤسسات التعليمية في كل من بريطانيا وأمريكا وفرنسا، التي تجاوز عمر بعضها مئات من السنين، تتآخى فيها العلوم الإنسانية والعلوم البحتة في تناغم كبير ضمن معادلة العرض والطلب دون أن يكون هناك محاولة لإلغاء تخصص على حساب تخصص آخر.

إن علم الجغرافيا، يا سادة يا كرام، لم يعد مجرد تخصص يهتم بأسماء البلدان وعواصمها وأنهارها وجبالها، بل أصبح علماً حديثاً وفاعلاً في تخطيط البيئة الطبيعية واستخدامات الأرض والتخطيط الإقليمي والدراسات السكانية وفي تحليل العديد من قضايا العصر الحالي مثل التلوث والكوارث الطبيعية والتكنولوجية ومشكلات المياه وطائفة لا حصر لها، بحيث نشأت فروع متخصصة للغاية مثل جغرافية الأمراض والجريمة والانتخابات والسياحة والزلازل.. الخ. ولا يتسع المجال لحصر اهتمامات الجغرافيا الحديثة وأدواتها الجديدة المتمثلة في نظم المعلومات الجغرافية التي لا تستغني عنها أية مؤسسة أو صانع قرار. ولا يمكن أن نتخيل صرحاً للمعرفة يرتكز على الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، ويتحدث لغة الرياضيات ويغفل دراسة الإنسان والمكان وتفاعلهما مع بعضهما البعض. إن العلوم النظرية، وفي مقدمتها علم الجغرافيا، من العلوم التي لا غنى للفرد والمجتمع عنها، فهي تعمل جميعها على بناء مجتمعات متكاملة في حضارتها المعنوية والمادية، وكل علم من هذه العلوم يؤدي دوره المنوط به، ففي الجامعات والمؤسسات التعليمية الغربية نجد أنهم يوظفون علم الجغرافيا ويدرسونه من جميع جوانبه كي يصلوا إلى أي هدف يسعون إليه. وما كتاب "دليل الخليج" الذي ترجم وطبع على حساب دولة قطر إلا برهان حي على ما نقول.

إن مجالس الجامعة المتخصصة ومسئوليها لم يكتفوا بقتل علم الجغرافيا فقط، بل قاموا عن سبق إصرار وترصد، بقتل عدة أقسام من أهمها وليس كلها: 1. قسم الجيولوجيا المرتكز الأساسي للبحث والتنقيب عن الثروات الطبيعية في قطر. 2. قسم علوم البحار والذي يعتبر مهما جداً لدولة يحيط بها البحر من ثلاث جهات ويبلغ طول سواحلها 680 كيلو متراً. 3. قسم التربية الفنية وهو القسم الذي يزيح العنف ويستثمر طاقات الطفل ويجعله غير معاد للجمال، مما يساهم مساهمة حقيقية في النمو الجسدي والعقلي للفرد، مع العلم أن دولة قطر تخطط لإنشاء خمسة متاحف يتقدمها متحفا الفن الإسلامي ومتحف الفن العربي الحديث..

والسؤال البريء: ما هي فائدة كلية الصيدلة لسوق العمل بدولة قطر؟

وفي الختام نقول انه لو أعيد العمل بتلك الأقسام فإن المطبلين والمزمرين، الذين أشادوا بعملية قتل تلك الأقسام، سوف يعودون مرة أخرى، مشيدين بحكمة قرار الإعادة ومدافعين عنه..

***

في الأسبوع الماضي مرض سائقي الخاص وذهبت به إلى مركز مدينة (..) الشمالية الصحي وبعد أن فحصه الطبيب المناوب قرر صرف بعض الأدوية له فذهبنا إلى موظفة الاستقبال لختم الوصفة ودفع الرسوم تمهيداً لاستلام الأدوية ولكن الموظفة قالت: تعال بكرة لصرف الأدوية لأن آلة سحب النقود تعطلت.. فنظرت من حولي وإذا بي أجد عدة مرضى من غير القطريين قد قيل لهم نفس ما قيل لنا. فقلت لها: وهل يجوز من ناحية إسلامية ومن ناحية إنسانية أن نترك المرضى بدون علاج حتى الغد لأن الآلة تعطلت؟!. وأصرت على موقفها ثم حاولت مع موظف الصيدلية ووصلني منه نفس الرد: تعال بكرة!!.

فهل يجوز يا إدارة مركز مدينة (..) الشمالية الصحي ويا إدارة المراكز الصحية بالمجلس الأعلى للصحة ويا وزير الصحة العامة أن يطلب من المريض الصبر على مرضه ومضاعفاته حتى اليوم الثاني ليتم تصليح آلة سحب النقود لتصرف له أدويته؟!. بارك الله فيكم وفي قراراتكم الخارجة عن المنطق.. عش رجباً تلقى عجباً!!

والله من وراء القصد..

Comments

Popular posts from this blog

مجلس الشّورى والتّقاعد

الحصار وتخبط غرفة قطر

الأرض والقرض للجميع