أرجوكم يا حكومة .. لا تزيدوا رواتبنا

أرجوكم يا حكومة.. لا تزيدوا رواتبنا

كنت في رحلة صيد سمك في المياه الإقليمية لدولة قطر وفجأة علقت بالخيط سمكة كانت من القوة أن جميع محاولاتي لسحبها إلى القارب باءت بالفشل الذريع.. وبعد دقائق من الصراع مع هذه السمكة وجدت أن خيط السمك أصبح سهل الجر فظننت أن السمكة قامت بقطع الخيط وذهبت في حال سبيلها.. وعليه فقد قمت بسحب الخيط لوضع "ميدار وبلد" جديدين. والمفاجأة التي لم تخطر على بال أحد أنني وجدت رأس هامور كبيراً جداً، بدون جسد، لا يزال عالقاً بالخيط.. فجلست أتخيل نوع السمكة الجبارة التي قامت بقضم جسد هذا الهامور الكبير في لقمة واحدة. وأنا أفكر في ذلك تبادر إلى ذهني حجم الرواتب في قطر وكيف تؤكل وتختفي من أيادي أصحابها.

منذ شهور طويلة ونحن نستمع إلى وسائل الاتصال الحديثة والقديمة في قطر تنقل بين الناس شائعات كأنها حقائق عن الزيادة المحتملة على رواتب الموظفين العسكريين والمدنيين على حد سواء بل وصل الأمر إلى تحديد نسبة الزيادة لكل فئة وظيفية. وطبعا لا غرابة في انجذاب الناس لهذه الشائعات لأن الزيادة في الرواتب، عند الكثير من الناس، هي تحول أموال النفط والغاز ليستفيد منها الشعب القطري بدلاً أن تذهب إلى خارج الحدود. والملاحظ أنه كلما زادت مساعدات دولة قطر الخارجية ارتفعت الأصوات المنادية برفع الرواتب لأن الشعب القطري يرى أنه الأحق بها.

والسؤال هو ما الهدف الذي يسعى إليه جميع الناس من المطالبة برفع الرواتب؟ الكل يعرف أن الهدف الرئيسي من زيادة الرواتب هو تحسين المستوى المعيشي للمواطنين. وبما أنني من المتابعين لأحوال السكان في دولة قطر، من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، فإنه يعتريني الخوف من هذه المطالبة، كما اعتراني الخوف من السمكة الجبارة التي قضمت جسد الهامور الكبير.. إننا يجب أن نفكر بتأثير زيادة الرواتب على الموظفين وعلى الاقتصاد بشكل عام. إن الزيادة في الرواتب، كما يعرفه جميع الاقتصاديين، تؤدي إلى مزيد من الغلاء. فلو ارتفعت الرواتب، على سبيل المثال، بنسبة ثلاثين بالمائة وتبعها ارتفاع بالمستوى العام للأسعار بنسبة خمسين بالمائة فإن الناس يصبحون أشد فقراً من ذي قبل. ولهذا لابد أن يواكب زيادة الرواتب اتخاذ إجراءات لمنع تسرب هذه الزيادة من جيوب الموظفين إلى جيوب التجار. فلا يكفي أن ترتفع الرواتب لكي تتحسن أوضاع الناس، فالأهم من ذلك هو أن تكون هناك معادلة شاملة لتحسين الوضع المعيشي للمواطنين بغض النظر عن القيمة الرقمية للرواتب لأن المهم هو القيمة الحقيقية (الشرائية) لما يحصلون عليه من دخل.

إن الأسلوب أو الطريقة الاقتصادية الصحيحة هي رفع مستوى المعيشة للمواطن دون زيادة الرواتب وهذه الطريقة ستؤدي إلى زيادة رفاهية المواطن بنفس الأجور والرواتب وفي نفس الوقت دون تأثيرات جانبية على الاقتصاد، ودون تغيير السلوك الإنفاقي والاستهلاكي للمواطن بحيث يمكن استثمار بقية الإيرادات في التنمية.. فدعم الغذاء ومواد البناء إلى جانب مراقبة الأسعار ومنع الاحتكار والحسم في إنفاذ العقوبات القانونية ضد من يخالف الأنظمة واللوائح هي الطريق الأمثل لتحسين المستوى المعيشي للمواطنين.. أما الزيادة في الرواتب لوحدها فلن تكون سوى مخدر موضعي وقتي لجزء من الجسد الاجتماعي فيما الأجزاء الأخرى تظل تعاني أوجاعها.. وكما يقول المثل الشعبي "لا طبنا ولا غدا الشر" فزيادة الرواتب، كما أراه، هو "بنادول" أو دواء مؤقت لتسكين الألم وعندما يذهب مفعول هذا الدواء فستعود الآلام ولابد من أخذ حبة "بنادول" أخرى من جديد ويستمر هذا المسلسل إلى ما لا نهاية.. فالزيادة في الرواتب لن تحدث (نقلة نوعية) في حياة الناس، بل أغلبها سيذهب لتعزيز القيم الاستهلاكية، وإذا كان البعض سوف يستفيد من الزيادة لمواجهة أعباء الديون، ولكن المشكلة لديهم ستكون باقية لسنوات طويلة.

أيضا ثمة جانب آخر سلبي لزيادة الرواتب يجعلها غير مفيدة للاقتصاد الوطني، وهو أن أغلب هذه الزيادة ستذهب إلى تجارة التجزئة، التي يسيطر عليها، بشكل كبير، غير القطريين، أي أن أغلب أرباح هذا القطاع لن تكون قيمة مضافة للاقتصاد، بل ستتسرب للخارج.. أما الأمر الآخر الذي يرتبط بزيادة رواتب موظفي الحكومة فهو أثر هذه الزيادة على موظفي القطاع الخاص، فإذا زادت رواتب موظفي الحكومة ولم تصاحبها زيادة في رواتب موظفي القطاع الخاص يصبح الآخرون في وضع صعب بسبب زيادة الأسعار وثبات رواتبهم. والأخطر من هذا هو أن الفجوة بين الرواتب في القطاع الحكومي والرواتب في القطاع الخاص ستؤدي إلى عزوف طالبي العمل من المواطنين عن التوظيف في القطاع الخاص في وقت أصبح القطاع الخاص يمثل القناة الأساسية التي توفر الوظائف الجديدة.

وفي الختام نقول: لسنا ضد زيادة الرواتب ولكن ماذا تعني الزيادة في الرواتب إذا صاحبتها زيادة في أسعار السلع والخدمات وفي نفس الوقت لنتساءل ماذا تعني الزيادة لهذه الفئات: لمن ليس له عمل أو تم تحويله للتقاعد وهو في ريعان الشباب، لمن لديه الشهادة الجامعية وهو جالس بالبيت ويأخذ وظيفته غير مواطن مسنود، لمن لا يجد له سرير في المستشفى، لمن لا يجد له قبول بالجامعة، لمن لا يتجاوز راتبه 000ر4 ريال قطري، لمن عليه ديون متعثرة لا يستطيع تسديدها لا هو ولا ورثته من بعده.. الخ. إننا ندرك أن التوجهات لزيادة الرواتب تعزز الإحساس الإنساني النبيل للدولة بضرورة تخفيف سلبيات الظروف الصعبة التي تواجهها شريحة معتبرة في المجتمع، وهذا توجه إيجابي بدون شك، لكن ثمن هذا الحل خطير جداً وسيرحل للأجيال القادمة.

والله من وراء القصد،،

Comments

Popular posts from this blog

مجلس الشّورى والتّقاعد

الحصار وتخبط غرفة قطر

الأرض والقرض للجميع