الرواتب والفكر الاستعماري

 

الرواتب والفكر الاستعماري

تم النشر بتاريخ 8/8/2010

عندما بدأت بالكتابة في موضوع قضاتنا وقضاتهم وبصورة أساسية عندما قمت بإعداد جداول الرواتب المقارنة بين قضاتنا وقضاتهم استرعى انتباهي أمراً غريباً وبدأت في التنقيب لمعرفة أصوله وكيف ابتلى المواطنين من تطبيقه عليهم. طبعاً كلامنا ليس مقارنة في حجم الرواتب بين الإمارات وقطر، وهو، كما تعلمون، فرق كبير جداً بينهما، ولكن كلامنا ينصب في حجم الراتب الإجمالي أثناء الوظيفة وبعد التقاعد.

 

إن أكبر درجة في سلم القضاة، على سبيل المثال، هو قاضي التمييز ويستلم راتب إجمالي أثناء العمل يبلغ في حدود 53 ألف ريال قطري شهرياً وعندما يحين الوداع ومغادرة قاعات المحكمة سواء بكيفه أو بغير كيفه يصبح الراتب الإجمالي في حدود 35 ألف ريال شهرياً أي بخصم يصل إلى حوالي 34 % من الراتب وهو على الوظيفة (مسكين قاضي المحكمة الابتدائية من 32 ألف ريال إلى 18 ألف ريال بخصم يصل حوالي 44 %). أما نحن في جامعة قطر، والشكر للقائمين عليها، لا نفقد عند التقاعد سوى علاوتي بدل السكن والتنقل (خصم حوالي 17 % فقط)

 

وقمت بالبحث والتنقيب في رواتب جميع موظفي الحكومة من المواطنين سواءً في السلك العسكري أو المدني ووجدت أن نفس الشيء يتكرر بخصومات كبيرة تصل في بعضها، مثل حالة بعض الوظائف العسكرية، إلى حوالي 60 % من الراتب المستلم أيام وجود الموظف على رأس عمله.

 

فما هي الأسباب وراء هذا الفرق الكبير بين الراتب الإجمالي للموظف العامل والموظف المتقاعد؟

 

إن راتب الموظفين القطريين، ومنذ أيام الانتداب البريطاني، تم تقسيمه إلى قسمين:

1.    الراتب الأساسي وهو ذلك الجزء من الراتب الإجمالي الذي على أساسه يتم الاتفاق في العقود الوظيفية

2.    العلاوات والبدلات وهي تشمل العديد من المسميات مثل العلاوة الاجتماعية وبدل طبيعة العمل وعلاوة السكن وعلاوة الانتقال وهي تدفع للموظف فوق راتبه الأساسي وهي تختلف باختلاف الدرجات الوظيفية وجهات التوظيف

 

وعندما يحال الموظف إلى التقاعد الجبري أو الاختياري فإنه يحتفظ براتبه الأساسي بالإضافة إلى العلاوة الاجتماعية أما باقي العلاوات مهما قلت أو كثرت فإنها تتبخر بمجرد توقيع قرار التقاعد. ولهذا تختلف الرواتب بين الموظف على رأس عمله والموظف المتقاعد. لهذا، وكما ذكرنا في مقالة سابقة، إن من يحال إلى التقاعد من القطريين يصيبه الهم والجزع والخوف زيادة على هم ارتفاع الرسوم والأسعار وهم المعاناة اليومية والسبب بسيط جداً وهو كيف يستطيع من رسم مخططات حياته ولفترة طويلة من الزمن على راتب شهري يبلغ حوالي  50 ألف ريال ثم بين ليلة وضحاها يجد نفسه براتب تقاعدي شهري يصل إلى نصف ما كان يتقاضاه سابقاً. وكأن هذا الموظف المتقاعد لا يحق له أن يأويه سكن أو أنه غير مسموح له بالتنقل وخلافه ولهذا وخلافاً لما يحدث في قطر نجد أن الفرح والسعادة تملآن حياة الأشخاص المحالون للتقاعد في الدول المتقدمة والصديقة والشقيقة لأنهم لا يواجهون ما يواجهه المواطن القطري.

 

وبالبحث والتدقيق، مرة أخرى، اتضح أن تركيبة الرواتب وتقسيمها إلى قسمين هي من نتاج الفكر الاستعماري الذي بلانا به رب العالمين. وقولنا هذا يستند إلى حقيقة أن من وضع تصنيف الرواتب هم الإنجليز والهنود تبعهم بعد ذلك كل من الأردنيين والمصريين وهؤلاء كلهم ملزمين بالإفصاح عن رواتبهم لمتطلبات حساب ضريبة الدخل في بلادهم الأصلية. وحتى ينالوا التخفيض أو الإعفاء الضريبي فكان لزاماً عليهم أن يتقدموا بوثيقة رسمية من الجهة التي يعملون بها، فلو كانت الوثيقة تذكر الراتب الإجمالي لأصبح المبلغ الضريبي الذي يتوجب عليهم دفعه كبيراً جداً ولذلك فقد ابتكروا طريقة تقسيم الراتب مع التأكيد على أن يكون الراتب الأساسي هو الأدنى والأقل وهو الذي على أساسه سوف يتم منحهم شهادة بالراتب أما الهبرة الكبيرة فهي العلاوات والبدلات وهي لا تكتب بالشهادة الرسمية للراتب وبهذا الأسلوب ضمنوا بأن يضل هذا الجزء من الراتب بعيداً عن الاستقطاع الضريبي. ولكن بأسلوبهم هذا فقد حرموا المواطنين من جزء كبير من الراتب يضاف إلى المعاش التقاعدي

 

وعندما أتت الإدارة الحديثة المكونة من المواطنين، وللأسف، لم تغير من نظام الرواتب وتجعله كنظام الراتب الشامل مثلما فعله أشقائنا في الإمارات العربية المتحدة، (ما عدا جامعة قطر فقط)، لأن نظام الراتب الشامل، كما هو معروف، يؤدي إلى الإسراع بمعدلات التوطين. وليس من صالح غير القطريين أن تزيد نسبة التوطين في الوظائف لأنه وببساطة سيسحب البساط من تحت أقدامهم. ولهذا تم إقناع بعض المواطنين المسئولين من طرف بعض غير المواطنين (وليس كلهم) بأهمية بقاء النظام كما هو وذلك لأن التوطين سوف يؤدي إلى منافسة هؤلاء المواطنين المسئولين من قبل الآخرين على كراسيهم، ولهذا فإنه ليس من المستغرب أن يتم التأكيد على تقسيم راتب القطريين في قانون الموارد البشرية.

 

وحتى لو سلمنا بأن يتم تقسيم الرواتب بهذا الأسلوب فلماذا لا يتم منح المواطن المتقاعد راتبه بالكامل من قبل هيئة المعاشات والتقاعد. فمثلاً قانون (2) لسنة 2000 للتقاعد والمعاشات في إمارة أبوظبي قد حدد المعاش التقاعدي على أساس كل من الراتب الأساسي وعلاوة مواطن وعلاوة الأبناء وعلاوة غلاء المعيشة وبدل السكن وبحد أدنى للمعاش التقاعدي يبلغ 200ر10 درهم. ألا تتشابه ظروف المواطنين المعيشية والاجتماعية في أبوظبي مع قطر. هل تريد الحكومة أن يواجه القطريين نفس الموقف الذي واجهته عندما انخفضت أسعار النفط في الثمانينات من القرن الماضي. ولكن الفرق بين الحكومة وبين المواطن أن الحكومة كانت لديها احتياطيات مالية كبيرة من جراء بيع النفط خلال فترة السبعينات فهي تخطت الأزمة بتلك الاحتياطيات أما المواطن وللأسف ليس لديه احتياطيات مالية يستطيع بها الصمود لفترة من الزمن لأن الراتب يأتي من هذه الجهة ويذهب مباشرة وبدون أي تأخير إلى تلك الجهة وربما في أحيان كثيرة يقوم بأخذ قروض حسنة وغير حسنة لتلافي النقص في الراتب

 

إن جميع التقارير تؤكد على إن قطر تشهد حالة من التضخم وأن ما يصرف للموظفين والمتقاعدين من رواتب أو معاشات لا تكاد تكفي حياتهم التي عودتهم الدولة عليها. ونحن بدورنا نؤيد أن تقوم الدولة بزيادة الرواتب وفي نفس الوقت تعديل قانون المعاشات ليشمل الراتب التقاعدي جميع العلاوات والبدلات، ومنها علاوة بدل السكن، بحيث يحافظ القطري على أسلوب حياته بعيداً عن المنغصات والهموم، لأن هذه الزيادة من جهة وتعديل رواتب المتقاعدين من جهة أخرى مهما بلغت ضخامتها لن تستقطع من الميزانية القطرية، التي عم خيرها خارج الحدود، الكثير. وبما أن بعض الوزراء يصرح دائماً وأبداً بأن الاقتصاد القطري قد نمى في السنة الأخيرة بمعدل أكثر من 16% وأنه في خلال السنوات الثلاث السابقة قد نمى بمعدل 35 % وهذا في حد ذاته برهان ودليل أن الاقتصاد القطري والميزانية القطرية في خير كثير وأعرف أن أي زيادة في نمو الاقتصاد الوطني من المفروض أن تنعكس بالإيجاب على الشعب ليشعر بقيمة هذا النمو رخاءً واستقراراً.

 

ولنسأل أنفسنا ما الذي فعله المواطنين ليستحقوا هذه البهدلة في آخر أيامهم؟ وهل من الممكن القضاء على آثار الاستعمار على الأقل في رواتبنا؟ طبعاً من الممكن القضاء على آثار الاستعمار إذا وجد المسئول القطري الجاد الذي يستطيع العمل بعيداً عن مؤثرات أصحاب النوايا السيئة..

 

والله من وراء القصد ،،

 

Comments

Popular posts from this blog

مجلس الشّورى والتّقاعد

الحصار وتخبط غرفة قطر

الأرض والقرض للجميع