الحدّ من ارتفاع الأسعار

 الدكتور محمد بن علي الكبيسي


الحدّ من ارتفاع الأسعار
 
في 24/6/2021 كتبَ الأخُ حمد لحدان المهندي مُغرّدًا لوزارةِ التِّجارة والصِّناعة بكلماتٍ قال فيها: "فيه سلعة كنتُ أشتريها بـ 1100، بعد رفع السعر إلى 1350، بعدها إلى 1550، واليوم سألت من نفس المحل صارت 2200، هذه الزيادة صارت في سنتَين فقط". وفي فترة استبانة "حلول ارتفاع المعيشة" وجدتُ أحدَ المُغرّدين يُخاطبُ وزارةَ التِّجارة والصِّناعة شاكيًا تفاوتَ سعرِ سلعةٍ من مكانٍ لآخر. فقامت الوزارةُ بالردّ على المغرّد قائلةً: "مرحبًا بكَ، لا يوجد سعر إجباري على هذا النوع من السلع، يجب عليك كمُستهلك المقارنة بين الخيارات المُتاحة واتّخاذ القرار المناسب لك. شكرًا لتواصلك معنا". صحيح أنَّ الإسلام حرّم تدخلَ طرفٍ خارجي بين البائع والمُشتري في تحديدِ أسعارِ السلعِ والخِدمات، وذلك استنادًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما غلت الأسعارُ في زمانِه فطالبه الناسُ بالتسعيرِ لهم، فقال: "إن الله هو المُسعِّر القابضُ الباسطُ الرازقُ، وإني لأرجو أن ألقى اللهَ ليس أحد يطالبني بمظلمة دمٍ ولا مالٍ" (الغلاء كان بسبب ظروف طبيعيّة بحتة). ومن الحديث يتبينُ لنا أن تدخّلَ الدولة في تسعير السِّلع في الظروف العادية ظلمٌ يجب تجنّبُه. وفي هذا اختلف الفقهاءُ وتعددت آراؤُهم حول حِلّ أو حرمة التّسعير، فمن عمل بظواهر النصوص قال بحرمة التسعير، أما من يرى أنَّ الإمامَ يرعى مصلحةَ الأمّة فقال بجواز التّسعير عند الحاجةِ واقتضاءِ المصلحة. وهنا نأتي للسؤال الهامّ: هل تستطيعُ دولةُ قطر فرضَ الأسعار على التجار، وأصحاب العقار؟ في البداية، وقبل الإجابة عن السؤال، يجب أن نعرفَ ما تملكُه الحكومةُ من وسائلِ ضغط على التّجار وأصحاب العقار، وهذه بعضها:
 
1. الحكومةُ القطرية تدفع من مصادرِها ما يزيد على 000ر4 ريال شهريًا مقابل كل فرد يعيش على أرض الوطن لتوفير خِدمات التعليم والصحة والأمن والصرف الصحي والنظافة العامة.
2. منح أراضٍ مختلفة الاستخدام بأجور رمزية مثل: "الصناعية" و"مناطق" و"ميناء حمد".
3. صحيح أنَّ الشركات تدفع عن استهلاك الكهرباء والماء، ولكنَّ هذه المبالغَ التي تدفع هي أقلُّ بكثير من التكلفة الحقيقية لإنتاج الكهرباء والماء.
4. الشركات التي أصحابها قطريون لا تدفع ضرائب على أرباحها، وحتى الشريك الأجنبي لا يدفع سوى 10 % من الأرباح مهما بلغت قيمة الأرباح.
5. الرسوم الجمركيّة على عموم السلع لا تتجاوز 5 % من قيمة الفاتورة.
6. يستهلك عمّالُ الشّركات بعضَ السلع المدعومة من الحكومة مثل: الخبز والوقود.
7. لا ضرائبَ ولا رسومَ بأي شكل من الأشكال على العقارات أو الأراضي الفضاء.
 
بالإضافة إلى أن الحكومة، وبخاصة الشركات المساهمة، توفّر لها الأرض بالمجان، وضمان القروض المحلية والأجنبية، ولهذا كله فإنه من العجب العجاب أن تقف الحكومة موقفَ المتفرج من غلاء الأسعار بهذه الطريقة، وهي في موقف قوّة بما توفّره من خِدمات ودعم. وبهذا وصلنا لجواب السؤال: هل تستطيعُ؟ نعم تستطيعُ الحكومةُ فرضَ الأسعار على التجار وأصحاب العقار مقابل كلّ ما تمنحه من تسهيلات لهم. ولنبدأ بشركة "الميرة" للمواد الاستهلاكية التي تعدّ من أكثر الشركات التي تدعمها الحكومة. كان في قطر، بالسابق، جمعيات تعاونية في غالبية الأحياء السكنية وبعض القرى، وقامت الحكومةُ بتحويل الجمعيات إلى كيان واحد كشركة مساهمة بهدف الوصول إلى مجتمع قادر على مواجهة التقلبات الاقتصادية والمعيشية وإثراء التنافس داخل السوق، وكسر الاحتكار، وحماية ذوي الدخل المحدود من جشع بعض التّجار، ولتحقيق سعر أقلّ لسلع جيدة ذات جودة عالية، وبالتالي سينعكس هذا الأمرُ في إدارة مواجهة التّضخم. ولكن "الميرة" فشلت بامتياز في تحقيق هذا الهدف السامي ليصبح هدفُها الأسمى هو تحقيق الأرباح فقط، ويا ليتها نجحت في هذا الأمر؛ لأنّها قامت بتغطية فشلها الإداري والتنظيمي عن طريق رفع أسعارها. إنَّ دور اتحاد الجمعيات التعاونية بالكويت، على سبيل المثال، هو الدور المطلوب أن تقوم به "الميرة" في قطر، حيث إنه (أي الاتحاد) يشكّل ضغطًا كبيرًا على التجار والمورّدين ممن يبالغون في رفع أسعار سلعهم بلا أيّ مبرّر، أو من خلال تبريرات غير صحيحة وغير منطقية، وذلك من خلال رفض الاتحاد زيادةَ أسعار تلك السلع، وتحذير التجار والمورّدين الذين يصرون على زيادة أسعار منتجاتهم بعدم دخول سلعهم لكافة فروع الجمعيات التعاونية. إننا في قطر لا نحتاج إلى قيام بقالات، ولكننا في حاجة إلى شركة تُدار بطريقة أفضل لتخدم المصلحة العامة للمُجتمع عن طريق الحدّ من زيادة الأسعار، وتنمية دخل المُجتمع. ومثل "الميرة" هناك شركات أخرى تَرفع المنتجَ على المُستهلك، مثل "حديد قطر" (طن الحديد ارتفع من 2300 ريال إلى أكثر من 2800 ريال)، وشركة، "وقود"، وشركة "ودام"، وشركة "بروة" وغيرها. طبعًا سوف نجدُ البعضَ قد يقول: إنَّ مردَ ارتفاع الأسعار في قطر يكمن من بلد المنشأ، إضافةً إلى ارتفاع أجور الشحن، والموادّ الأولية في الأسواق العالميّة، مما ينتج عنه ارتفاعُ أسعار السلع محليًّا. ونقول لهم: إنه مهما ارتفعت تلك الأسعار فإنّ الزيادة لن تصل إلى أكثر من 100 %، في حين أن أسعار بعض السلع في قطر ارتفعت لأكثر من 300 %. إن على الحكومة، وبما تملك من قوّة، اتّخاذَ الإجراءات المُناسبة لإيقاف مثل هذه الزيادات أو على الأقلّ الحدّ منها. إنَّ عمرَ بنَ الخطاب، رضي الله عنه، لما حصل غلاءٌ في السوق فيما يتعلّق بالطعام قام بشراءِ موادَّ من خارج الدولة، وطرحها في السوق بأسعار مُنخفضة ما أحدث هبوطًا في الأسعار. ونفس الشيء حدث أيام صاحب السموّ الأمير الأب، عندما انتشرت بقعةُ النفط في الخليج وهدّدت محطاتِ تحلية المياه، فارتفعت أسعارُ المياه المعبأة، فما كان من سموّه إلا أن استورد كَميات كبيرة من المياه من الخارج، ما أجبر التّجار على خفض أسعارهم. وتكرّرت العملية مرة أخرى عندما غزا صدام الكويت وصار الطلب عاليًا جدًّا على العملات الصعبة مما رفع من قيمتها وأثر في الريال القطري، فما كان من سموّه إلّا أن حمّل طائرات بعملات صعبة من الخارج وطرحها في السوق المحلي ما أجبر البنوك ومحلات الصيرفة على الرجوع إلى الأسعار الرسمية بدون أي زيادة.
 
وفي الختام نقول: إن المسؤولية الاجتماعية لدولة قطر هي ألا تتخلّى عن دورها في ضبط الأسعار، وإذا قامت بهذا الفعل فستجد نفسها بعد فترة من الزمن بألا حاجة لها في زيادة الرواتب ولا في تقديم السلع الأساسية المدعومة للمواطنين؛ لأن الأسعار سوف تنخفض بشكل كبير. الأمر الذي يصر عليه المغردون هو تنظيم الإيجار، بحيث تقيد الزيادات على إيجار السكن والمحلات التجارية. إن العديد من المغردين يقترحون كذلك إنشاء جهة رسمية تتبع مباشرة لرئيس مجلس الوزراء بمسمى "لجنة مراقبة التضخم" في الدولة، وتقوم هذه اللجنة بدراسة أسباب التضخم واقتراح الحلول المناسبة لها. وشخصيًا لا أخالفهم الرأي، ولكنني أرى، في نفس الوقت، أن تتولى إدارة التموين في وزارة الاقتصاد، شراء سلع أساسية أخرى غير التي توفرها حاليًا، من خلال المناقصات العامة وطرحها في الأسواق بأسعار التكلفة. وأيضًا إدخال إدارة حماية المستهلك كشريك أساسي يمثّل حصص الحكومة في جميع الشركات التي تُساهم فيها الدولة لتعمل دور المُنظم لعملية التسعير من الداخل، مع الحثّ على إمكانية إيجاد أسواق بديلة وبأسعار أقلّ للاستيراد مثلما حدث أيّام الحصار على قطر. ويجب ألا ننسى كبحَ شركة "وقود" وأسعارها المرتفعة، وما تسبّبه هذه الأسعار في زيادة أسعار السلع والأجور.
أما دور مصرف قطر المركزيّ فهو العمل على تقليل المعروض النقدي في السوق القطريّ؛ لأنه هو المسبب الرئيسيّ للتضخم، حيث يقود لارتفاع الأسعار. ولا يسعنا في هذا الصدد إلا أن نشكرَ وزارة التجارة والصناعة، ووزارة البلدية والبيئة، على تعاونهما في بناء مخزون إستراتيجيّ يغطي 6 أشهر من السلع الأساسية.
 
والله من وراء القصد،،
 


Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

مجلس الشّورى والتّقاعد

الحصار وتخبط غرفة قطر

الأرض والقرض للجميع