المواطن والغربة

 

المواطن والغربة

يقوم المواطن القطري الذي ترفض جهة معينة قضاء حوائجه بالبحث عن المواد القانونية التي قد تحمي حقوقه ويجدها كثيرة وواضحة كل الوضوح. ويبدأ في الانتقاء من تلك المواد التي يعتقد أنها ستعيد له حقه أمام المسؤول الذي رفض معاملته. ويذهب لمقابلة المسؤول ويبدأ التحدث معه، ولكن المسؤول ينهي حديثه بقوله: إن هذه التعليمات "أتتنا من فوق". ويحاول المواطن أن يسترجع فقرة "أتتنا من فوق" في أي مادة بالقانون ولكنه لا يجدها. وبينما هو خارج من مكتب المسؤول صادف أحد الفراشين من الذين كان يعرفهم، وبعد السلام سأله الفراش عن أسباب حضوره إلى هذه الجهة، فيشرح له الوضع. فما كان من الفراش إلا أن أخذ الأوراق منه، وبعد دقائق رجع وبيده الموافقة التي رفضت سابقاً بحجة "أتتنا من فوق". مواطن آخر يذهب للبحث عن وظيفة لابنته المتخرجة حديثاً من الجامعة، ولكنه يجد أن كل الأبواب مغلقة أمامه، فهذا يقول عندنا كفاية، والآخر يتعذر بعدم وجود شواغر، والثالث يوعده بالاتصال معه لتحديد موعد للمقابلة (التي لن تأتي). ويستغرب هذا المواطن أن أبواب التعيينات المغلقة أمامه مفتوحة بمصراعيها للوافدين والوافدات. وفي الأخير يجد من يتوسط له من الوافدين لتشغيل ابنته المواطنة. والنماذج كثيرة ولكننا نكتفي بما ذكر.
إن قضاء أعمال المواطن أصبحت تعتمد على مدى انتشار علاقته ومقدرته في مصادقة الجميع، على الأقل، لفترة مؤقتة. فأصبح يصادق الفراشين، والسباكين، والكهربائيين، وعمال المحلات.. الخ، ويشعرهم بعدم توفر أمثالهم داخل قطر، بنفس الأسلوب المصري "إنتوا أجدع ناس". وبهذا يتعامل معهم بما يشبه التُقية، كما في قوله تعالى ".. إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً.." آل عمران: 28. وبهذا الأسلوب يتمكن المواطن من قضاء حوائجه، ويتمكن من توفير مبالغ ليست بالبسيطة في السلع والخدمات. إن الصداقة المؤقتة مع الوافدين قد يكون لها مردود نفسي ومالي كبيرين.. نفسي أن كل أمورك مقضية في أسرع وقت، ومالي لحصولك على أسعار معقولة. ولكن كل ذلك يشعرنا كيف يعيش القطري غريباً في وطنه.
إن شعور المواطن بالغربة في وطنه هو انتهاك خطير للدستور القطري، ويعتبر محاولة لزعزعة وحدة المجتمع، ويعد كارثة خطيرة، في حد ذاتها، لأنها تزرع الكراهية في قلوب المواطنين لكل شيء ينتمي للوطن، وقد تظهر هذه الكراهية على السطح في فترات تتزامن مع خروج الفرد عن "طوره"، مما يجعله يكره الحياة "المهينة والوضيعة" التي جعلت الوافد له الكلمة العليا في وطنه الذي ينتمي إليه. إنني هنا لا أتهجم على الوافدين، فهم الخير والبركة، ولقد شرحت في مقالات سابقة ظروف مجيئهم لقطر، وسيظل المجتمع في حاجة أكيدة لخدماتهم، ولكن تركيز مقالتي على المسؤول القطري الذي جعل بينه وبين أبناء وطنه حواجز ليس لها أول ولا آخر، وقام بتعطيل مصالح الناس عن طريق قيامه بتفسير القوانين على كيفه، أو على كيف مستشاريه المقربين. بل ونجد أن هذا المسؤول القطري يتفانى في الدفاع عن الوافدين على جميع الأصعدة، في حين يهمل تلبية أبسط حقوق المواطن. ولنأخذ التقاعد على سبيل المثال، لا الحصر، فنجد أن من أحيلوا للتقاعد، أو أبعدوا من وظائفهم في وزارات الدولة أو مؤسساتها من دون سبب وجيه أو قانوني هم من المواطنين، أما الوافدين فنجد أن منهم من تجاوز السن القانوني بمراحل طويلة ومع ذلك لا يزال على رأس عمله لأن المسؤول القطري يستميت في الدفاع عن الوافد. بل ونجده يخاطب معالي رئيس مجلس الوزراء للتمديد له، في حين أن مجلس الوزراء لا يستدعي المسؤول القطري لسؤاله لماذا أحال مواطناً للتقاعد؟ ولهذا فإنه ليس بغريب، بسبب المحبة المفرطة للوافد، أن يتوسط الوافد للمواطن، لأن الوافد أصبح هو المواطن في المعاملة والاهتمام، في الوقت الذي يعامل المواطن في بلده كأنه وافد.
إننا نسمع منذ سنوات طويلة أن المواطن هو الثروة الحقيقية للبلاد، وأن تحسين معيشته بالنسبة إلى الحكومة هو الهاجس الأول، ولكن على أرض الواقع لا شيء مما يقال. وهكذا يدرك المواطنون بأنهم أصحاب حق وأنهم باتوا غير قادرين أن يحصلوا على حقوقهم بدون وساطة الوافدين. إن قوة أي دولة لا تتمثل فيما تمتلكه من موارد وإمكانات وقدرات، وليست القوة هي إذعان الناس لقدرة وسلطة الدولة، ولكن القوة تكمن في قيام الدولة بحماية حقوق الناس التي سلبها المسؤول القطري وجعل أهل ديرته يترجون الوافد للتوسط بغرض جلب حقوقهم. يجب أن يشعر كل مواطن أنه جزء أصيل من استمرار بقاء دولته، وليس مجرد موظف يترزق العيش بعيداً عن أي مشاعر للانتماء والولاء. وهذا هو ما يميز الدول المتقدمة لأن عملهم ينبع أساساً في تعزيز الثقة بالنظام العام، والالتفاف حول الوطن، بغض النظر عن الاختلافات والتباينات في الآراء والمعتقدات.
وفي الختام نقول إن المواطن القطري أصبح غريباً داخل وطنه وليس أمامه غير الرضوخ والبحث عن الوافد ليتوسط له في إنهاء أعماله، وربما تكون تلك الممارسات غير مقصودة، ولكن لها آثار تدميرية كبيرة. وهنا يأتي دور الحكومة القطرية لإرجاع مكانة المواطن مما يساهم باستقرار المجتمع القطري. إنه من المؤسف أن يشعر المواطن بالغربة وهو في أحضان وطنه وبين أهله وناسه. والسؤال البرئ: إن الغربة في الوطن طعمها علقم.. فهل ستطول حالة العلقم على المواطن؟
والله من وراء القصد،،

Comments

Popular posts from this blog

مجلس الشّورى والتّقاعد

الحصار وتخبط غرفة قطر

الأرض والقرض للجميع