تقليص وترشيد النفقات العامة

 

تقليص وترشيد النفقات العامة

لقد فرحت بقيام سعادة الأخ علي شريف العمادي، وزير المالية، بإصدار منشور بإجراءات وضوابط إعداد الميزانية القادمة، بهدف تقليص وترشيد النفقات العامة بواقع 20 % من الميزانية القادمة. وهو توجه سليم للحفاظ على أموال الدولة، التي هي في الأساس، أموال الشعب. وكان منبع فرحتي بالقرار هو اعتقادي بأن قرار سعادته جاء بعدما تبين للجهات المسؤولة حجم الإنفاق الكبير الذي صاحب احفالاتها باليوم الوطني. ولكن مدى الفرحة كان بسيطاً، لأنه، وبعد أقل من شهر على هذا المنشور، ننصدم بقيام الجهات الحكومية بفتح خزائنها على مصارعيها لتنفق ببذخ على فقرات اليوم الرياضي، وكل جهة تتبجح بحجم مشاركتها، وبالبرامج التي نظمتها!! مع العلم بأن معظم المسؤولين، والموظفين العامين، لا يوجد لديهم اقتناع كبير بالرياضة العامة، ولا بالرياضيين، والمؤشر على ذلك كبر "كروش" البعض منهم. ومن الآن، وللأسف، بدأت الميزانيات والبرامج تعد للمشاركة بمعرِض قطر المهني أو ما أطلقت عليه "ديوان السبيل المهني" (انظر الشرق 9 /2 /2014)، والذي تعود فوائده على الشركات "الخاصة جداً" المنظمة للمعرِض وليس له فائدة مباشرة للمواطن، الذي تنهب أمواله تحت مسميات عدة.

فما هو مفهوم النفقات العامة؟ النفقات العامة عبارة عن مبالغ مالية متعلقة بذمة الدولة المالية ينفقه ولي الأمر، أو من ينوب عنه، بقصد إشباع حاجات عامة، أو تقديم خدمات ذات منفعة عامة. أي إن استخدام الأموال مقتصر لإشباع حاجة مهمة، ومصالح عامة شرعية، ويتم الصرف لتحقيق تلك المصالح، بالترتيب التالي: 1. الضروريات وهي تشمل الأركان الخمسة للحياة الفردية والاجتماعية مثل الدين، النفس، العقل، النسل، المال. ويأتي من ضمنها الأمن، والدفاع، والعدل، والتعليم، والصحة. 2. الحاجيات: وهي الأمور التي تترتب المشقة عند اختلالها، مثل البنية التحتية ومرافق الخدمات الأساسية. 3. التحسينات: وهي الأمور المكملة، ولا تصعب الحياة بعدم وجودها مثل المتنزَّهات والحدائق العامة وغيرها.

إن النفقات العامة هي أداة لخلق توازن في مراحل تقدم ونمو المجتمعات، ففي حالة الركود تزيد الدولة من نفقاتها لتحريك الدورة المالية، ولتشغيل كافة مواردها الإنتاجية لتحقيق حد الكفاية، ومنها توفير المستوى المعيشي اللائق لكل فرد من أفراد المجتمع. أما في حالة الانتعاش فتقلل من نفقاتها خوفاً من حدوث تضخم، وتقتصر نفقاتها على الأنشطة الضرورية فقط. ولكن ذلك لا يتم إلا من خلال: 1. تقديم الأهم على المهم في تحديد أوجه الحاجات العامة. 2. حسن اختيار العاملين المشرفين على المال العام. 3. الربط بين التكلفة والعائد. 4. ترشيد الإنفاق في تحديد الشكل النهائي للمشاريع. وفي هذا لابد من تحقيق العدالة الفردية بتوزيع الأموال على الأفراد المستحقين لها، وفق معايير وضعها الله سبحانه وتعالى ورسوله. وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية: "لا يجوز للإمام أن يعطي أحداً ما لا يستحقه، لهوى في نفسه، من قرابة بينهما أو مودة، ونحو ذلك..". ولنسأل سعادة وزير المالية: ماذا يعني تقليص وترشيد النفقات العامة؟. هل يعني: 1. إلغاء عقود تأجير السيارات من الشياب والعجائز وذوي الاحتياجات الخاصة، وهي الفئة التي أجمع المجتمع عليها، بأنها فئة محتاجة واستبدالها بسيارات تأجير وقت الحاجة من الشركات "الخاصة جداً" التي يمتلكها شخص أو شخصان. 2. إلغاء وظيفة عمال الخدمات "الفراشين والمراسلين" والتي تصل رواتبهم، مع السكن والإقامة، حوالي 2500 ريال واستبدالهم بعمالة من شركات الخدمة المتخصصة "والخاصة جداً"، والتي يحسب تأجير أفرادها للجهات الحكومية بمبلغ لا يقل عن 4000 ريال شهرياً. 3. إلغاء عقود توريد الصحف من الذين يرسلون محرريهم بالمجان إلى الجهات المختلفة، لينقلوا ما يقومون به من أنشطة، وما يصرح به "بو بشت"، طبعاً بعد ما يجمل المحررين هذه التصريحات، لنقلها كإنجاز سابق لعصره. إن قيمة الريالين للجريدة الواحدة لا تكفي لتغطية تكاليفها، ومع ذلك هم صابرون عليكم، في حين تدفع الحكومة للإعلام الغربي عشرات الملايين من الدولارات، وفي الأخير يسبون قطر والقطريين.

إنني من المؤيدين للعمل من خلال تعهيد الخدمات والأعمال، أو ما يعرف غربياً بمسمى (Outsourcing) لدرجة أني أنشأت شركات خاصة لتقديم مثل هذه الخدمات للعديد من الشركات بالقطاع الخاص. ولكن في هذا يجب التفريق بين التعهيد في عمل الشركات، والإنفاق الحكومي. ففي الشركات ينظر للتعهيد على أنه وسيلة لتعظيم الأرباح، أما الإنفاق الحكومي فلا ينظر له من زاوية الأرباح والخسائر، ولكن من ناحية تحقيقه الرفاهية، وتحسين سبل العيش الكريم للمواطنين والمقيمين. ففي بداية التعليم ـ على سبيل المثال ـ كانت الدولة، مع قلة مواردها المالية، تصرف على التعليم ببذخ، وكانت توفر للطلبة الوجبات المجانية اليومية (فطور وغداء)، وتصرف لهم الرواتب، والملابس (صيفية وشتوية)، وأعزكم الله، الأحذية والجوارب وغيرها الكثير، وهذه جميعها، من وجهة نظر الاقتصاديين، خسارة لأنها لا تحقق مبدأ القيمة مقابل التكلفة، ولكنها من منظور المجتمع هي أرباح حقيقية، ونشاهد نتائجها الآن على جميع الأصعدة.

وفي الختام نقول: إننا نؤيد ما جاء بالمنشور الذي أصدره سعادة وزير المالية، عن أهمية وجود ضوابط صارمة، ترتكز على نتائج يمكن قياسها.. لتحقيق مبدأ الشفافية (انظر الشرق 15 /12 /2013 و26 /1 /2014). لكننا في الوقت نفسه نخاف أن يشمل تقليص الإنفاق بنسبة 20 % الخدمات العامة للمواطنين والمقيمين، والتي بدأتُ شخصياً ألمس آثارها في الخدمات الصحية المقدمة من المراكز والمستشفيات العامة. ولا ننسى قبل إقرار مبدأ التقليص أن السكان يتزايدون بمعدل 200 ألف سنوياً، وأننا مقبلون على مناسبات عالمية عديدة.

والله من وراء القصد.

Comments

Popular posts from this blog

مجلس الشّورى والتّقاعد

الحصار وتخبط غرفة قطر

الأرض والقرض للجميع